سورة محمد - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (محمد)


        


{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)}.
التفسير:
قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ}.
هكذا تبدأ السورة بهذه المواجهة، التي تلقى المشركين والكافرين بهذا الخبر المشئوم، الذي يسدّ عليهم منافذ النجاة، ويدعهم في متاهات الضلال يتخبطون، وقد تقطعت بهم الأسباب، وأفلت من أيديهم كلّ متعلق كانوا يتعلقون به، من أوهام وظنون.
ويبدو هذا اللقاء بالكافرين وكأنه أول وجه يلقاهم على طريق ضلالهم، ثم لا يكون منه إليهم إلا أن يلقى إليهم بهذا الخبر المزعج، وأنهم في وجه عاصفة وشيك التقاؤهم بها، وهلاكهم بين يديها.. ذلك على حين أن هؤلاء الكافرين، قد كان لهم قبل هذا أكثر من لقاء مع آيات اللّه، ومع رسول اللّه، يدعوهم إلى اللّه، ويكشف لهم طريق الهدى، ويحذرهم عاقبة ما هم فيه من ضلال.. ولكن هكذا يجىء اللقاء بهم هنا، وكأنه يضرب صفحا عن كل هذه المواقف التي كانت لآيات اللّه ولرسول اللّه معهم إذ لم يكن لهذا كله، أثر فيهم، ولا نفع لهم.. وإذن فليستقبلوا ما كانوا.. يستحقون أن يستقبلوا به من أول الأمر.. فهذا هو حسابهم وجزاؤهم.. أما ما قدّم إليهم من قبل من وسائل الهداية، وسبل النجاة، فهو مما يقيم الحجة عليهم، ويقطع كل عذر لهم عند أنفسهم، كما أنه مما يملأ قلوبهم حسرة وكمدا، حين ينكشف لهم الأمر، ويحلّ بهم البلاء، ويرون أن وسائل النجاة من هذا البلاء، قد كانت بين أيديهم، وتحت سمعهم وأبصارهم، فلم يلتفتوا إليها، ولم يمدّوا أيديهم لها.
وإنه ليس أشدّ إبلاما للإنسان من أن تكون السلامة في يده، ثم يلقى بنفسه إلى التهلكة!!.
ثم إنه مما يزيد في حسرة هؤلاء الذين كفروا، أنهم لم يهلكوا أنفسهم وحسب، بل إنهم أهلكوا أهليهم وإخوانهم، إذ كانوا دعوة من دعوات الضلال لهم، وبمحادتهم للّه ورسوله. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} [15: الزمر].
وقوله تعالى: {أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ} هو حكم على الكافرين بفساد أعمالهم كلها، وردّ اللّه سبحانه وتعالى لها، وعدم قبولها منهم، حتى ولو كانت مما يحسب في الأعمال الصالحة.. فكل عمل لا يزكيه الإيمان باللّه، هو عمل ضائع، ضال.. لا يعرف له طريقا إلى مواقع الرضا والقبول من اللّه.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ}.
هو بيان للوجه الآخر من وجوه الناس، وهم الذين آمنوا باللّه، ثم أتبعوا إيمانهم باللّه، الأعمال الصالحة، التي هى ثمرة الإيمان باللّه، فمن آمن باللّه، كان مطلوبا منه، بمقتضى هذا الإيمان، أن يستجيب للّه، وأن يستقيم على طريق الحق والخير، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
وقوله تعالى: {وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ} هو إيمانهم بالرسالة الإسلامية التي جاء بها النبىّ، بعد الإيمان الذي تلقاه المؤمنون من الرسالات السماوية السابقة، أو دلّتهم عليه عقولهم.
فمن كان مؤمنا باللّه قبل الرسالة المحمدية، كان من شأن إيمانه هذا، أن يدعوه إلى الإيمان بتلك الرسالة لأنها دعوة مجددة إلى الإيمان باللّه.
والإيمان باللّه، طريق واحد، يلتقى عليه المؤمنون جميعا.. وإنه ليس للمؤمنين باللّه طريقان، بل هو طريق واحد.. فمن كان على غير هذا الطريق فهو ليس من المؤمنين، كما يقول اللّه سبحانه: {وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً} [115: النساء].
وعلى هذا، فإن من بلغته الرسالة الإسلامية، من المؤمنين، من أهل الكتاب، أو الفلاسفة والحكماء، ثم لم يؤمن بهذه الرسالة، فهو ليس مؤمنا وليس على طريق المؤمنين.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}.
إشارة إلى أن المؤمنين الذين آمنوا باللّه، إنما يؤمنون- إذ يؤمنون بما أنزل على محمد- بالحقّ المنزل من ربهم.. فمن أنكر هذا الحق المنزل من عند اللّه، فليعلم أن ما عنده من إيمان ليس من الحقّ، إذ لو كان حقا لا لتقى مع هذا الحقّ، فالحقّ، لا يصادم الحق، ولا تختلف طريقه معه.
وقوله تعالى: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ}.
هو خبر لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} أي أن الذين آمنوا هذا الإيمان، وعملوا الصالحات، كفّر اللّه عنهم ما كان منهم من سيئات، قبل أن يؤمنوا بالرسالة المحمدية، فهو إيمان مجدّد لإيمانهم، ومصحح له، إذ كان هو الدّين كله، وبه تمّ الدين الذي جمع كلّ ما جاء به الرسل، كما يقول اللّه تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} [19: آل عمران] وكما يقول اللّه جل شأنه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [13: الشورى] وكما يقول جل شأنه:
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [85: آل عمران].
وفى قوله تعالى: {وَأَصْلَحَ بالَهُمْ} إشارة إلى ما يثمره الإيمان بدين الإسلام، إذ يجمع قلوب المؤمنين به، ويقيم مشاعرهم على أمر واحد، فلا يكون منهم التفات إلى هذا الدين أو ذاك، إذ أن الإيمان بالإسلام إيمان بجميع رسالات السماء، وتصديق بكل رسل اللّه.. سواء أكان هذا الإيمان بالإسلام من أهل الكتاب، أو ممن لا كتاب لهم.. وبهذا الإيمان يستريح بال المؤمن، ويطمئن قلبه، ولا تنزع به نازعة من عداوة أو بغضة أو مجافاة، لأى دين من الديانات السماوية، إذ كانت كلّها مجملة في الإسلام، مطوية تحت جناحه.. ولعلّ هذا معنى من معانى كلمة {الإسلام} التي كانت عنوانا لهذا الدين، الذي يجد من يدين به، السلام بين مشاعره، كما يجد السلام مع الناس! وذلك صلاح البال على تمامه وكماله.
والبال هو الحال والشأن، الذي يكون عليه الإنسان، يقال: ما بال فلان؟
أي ما شأنه؟ وما حاله؟.
قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ}.
الإشارة هنا {ذلِكَ} مشاربها إلى ما تقرر في الآيات السابقة، من أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد، سيهديهم اللّه ويصلح بالهم، وأن الذين كفروا قد أضل اللّه سعيهم، وأفسد مشاعرهم، وأزعج خواطرهم- فهذا الذي فيه المؤمنون من هدى وإصلاح بال، وما عليه الكافرون من ضلال وسوء حال، هو بسبب أن كلّا من الفريقين قد سلك الطريق الذي يصل به إلى هذا الذي هو فيه.. فالذين كفروا اتبعوا الباطل، فكان أمرهم إلى الخذلان والبوار، والذين آمنوا اتبعوا الحق المنزل عليهم من ربهم، وهو القرآن، فكان أمرهم إلى الأمن والهدى والسلام.
وقوله تعالى: {كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ} الضمير في {أَمْثالَهُمْ}.
يصحّ أن يكون عائدا إلى الناس، بمعنى أنه بمثل هذه الأمثال يضرب اللّه للناس الأمثال، التي تكشف لهم أحوالهم.
ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى الكافرين، والمؤمنين، بمعنى أن اللّه سبحانه وتعالى يضرب للناس أمثال الكافرين والمؤمنين، ليكون لهم العبرة والعظة، فيما يرون من هؤلاء وأولئك.
قوله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ}.
بعد أن بينت الآيات السابقة حال كلّ من الكافرين والمؤمنين، وأن الكافرين قد أضل اللّه أعمالهم، وأفسد أحوالهم، وأنه سبحانه قد هدى المؤمنين وأصلح بالهم- بعد هذا جاءت النتيجة اللازمة لهذا البيان، وهو أن الناس فريقان: كافرون ومؤمنون، وأعداء للّه، وأولياء للّه.. ومن ثمّ كان لا بد أن يقف المؤمنون في وجه أعداء اللّه، وأن يعملوا على حماية أنفسهم من شرهم، إذ كان أهل الشر والفساد- دائما- حربا على أهل الخير والسلامة، شأن المصاب بداء خبيث، فإنه يكون خطرا على من يخالطه أو يتصل به.
وعلى هذا، فإن على المؤمنين، إذا التقوا بالكافرين في ميدان قتال، أن يوطنوا أنفسهم على أن تكون الغلبة لهم، فإن انتصارهم انتصار للحق والخير، وهو انتصار للّه، ولدين اللّه، وأن هزيمتهم تمكين للباطل، وتسليط للبغى والعدوان، على مواقع الخير والحق.
وقوله تعالى: {فَضَرْبَ الرِّقابِ} أي فاضربوا الرقاب.. وقد أقيم مصدر الفعل مقام الفعل، للإشارة إلى أنه لا يكون للمؤمنين في لقاء الكافرين أي فعل أو شأن، إلا الضرب، والضرب للرقاب.
والمصدر هو أصل لما يشتق منه من أفعال وصفات، وأسماء.. وهذا يعنى أنه جامع لكل معنى يشتق منه.. وهذا يعنى أن تسليط المصدر على شىء، هو قصر كل معطيات المصدر على هذا الشيء وحده، دون التفات إلى شيء غيره.
وهنا في هذا المصدر {فَضَرْبَ الرِّقابِ}.
قد سلّط المصدر على الرقاب، فكان هذا قاضيا بألا يكون للمؤمنين شأن في موقف القتال مع الذين كفروا- إلا الضرب، والضرب في الرقاب، دون غيرها.
والمراد بضرب الرقاب، الضرب في موطن القتل، لا في موطن آخر، كالأطراف ونحوها، حيث لا يكون القتل محققا بضربها.
هذا، وليس الضرب للرقاب أمرا لازما لا بد منه، إلا إذا أمكن، وسنحت الفرصة للمؤمن من ضرب الكافر الضربة القاتلة.. أما حين لا يمكن ضرب العنق، أو الضرب في مقتل، فليضرب حيث أمكنه الضرب، في الأطراف أو غيرها.
أما فائدة الأمر بضرب الرقاب، فهو لعزل شعور المسلمين عن الاستبقاء على من أمكنتهم الفرصة فيهم من الكافرين، وقدروا على قتلهم، يريدون بذلك أسرهم، وجعلهم من مغانم الحرب.. وهذا من شأنه ألا يقيم نظر المسلم على الجهاد في سبيل اللّه، وجعله خالصا له، إذ كان ينظر إلى ما يقع ليده من مغانم، وهذا بدوره يدعو المسلم إلى الحرص على حياته، والنجاة من القتل، حتى يأخذ حظه من تلك المغانم، وهذا من شأنه أن يضعف من بلاء المسلم في القتال، ومن نكابته في العدوّ.. وهذا، وهذا، وكثير غيره، مما يخفّ به ميزان المجاهد في سبيل اللّه، وتذهيب به ريح المجاهدين، إذا نظر المجاهد في ميدان القتال إلى نفسه، وطلب لها السلامة، أو الغنيمة، ولم يكن مطلبه الأول هو الانتصار على العدوّ، أو الاستشهاد في ميدان القتال.
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ}.
{حَتَّى} حرف غاية، لبيان الحدّ الذي يجب أن يقف فيه المسلم عن قتل الكافر، في ميدان القتال، وهو أن يرى الكافر وقد أثخنته الجراح، وسقط في ميدان المعركة..، ولم يعد قادرا على المشاركة فيها- هنا لا يجوز للمسلم أن يقتل هذا المثخن بالجراح، بل كل ما يفعله، هو أن يتحقق من أنه لن ينهض ليحارب من جديد، وذلك بأن يشد وثاقه، أو يضربه ضربة تعجزه عن القيام، ولا تقضى عليه.
فشدّ الوثاق، قد يكون على حقيقته، إن أمكن، وقد يكون بتعجيز الجريح عن أن ينهض، ويعود إلى قتال المسلمين مرة أخرى، في هذه المعركة.
وهذا وجه من وجوه الإسلام المشرقة- وكل وجوه الإسلام وضيئة مشرقة- وما فيه من معانى الإنسانية الرفيعة السامية، التي تراود أحلام الفلاسفة والأخلاقيين، ولا يجدون لها في عالم الواقع مكانا.
فالإسلام في حربه للكافرين- وهم حرب على كل حق وخير- لا يريد قتلهم، ولا يشتهى إراقة دمائهم، ولو كان من همّه هذا لما ردّ سيفه عمن كانوا لساعتهم حربا على المسلمين، يقتلونهم ويسفكون دماءهم، ثم أغمدت سيوفهم، وتكسرت رماحهم، وأصبحوا في عجز قاهر لهم أن يضربوا بسيوفهم أو يطعنوا برماحهم!.
إن غاية الإسلام من حرب أعدائه هو دفع شرّهم، ووقاية المسلمين من الخطر الذي يتهددهم من جهة عدوّهم.. فإذا لم يكن ثمة خطر، فلا حرب، ولا قتل، فإذا كان خطر، فهى الحرب، والقتال والقتل.. فإذا زال الخطر غمدت السيوف، وأطفئت نار الحرب.
هذا هو الإسلام في حربه.. إنها الحرب لطلب السلامة والسلام، وليست حربا للبغى، والتسلط.
فأى ميزان أعدل وأقوم من هذا الميزان فيما بين الناس والناس؟
وأي أمن وأي سلام كهذا الأمن والسلام، الذي يجده المجتمع الإنسانى في ظل مبدأ كهذا المبدأ، الذي يفرضه الإسلام على أتباعه في وجه العداوة وفى ردّ العدوان، مما تسوقه إليهم الحياة على يد الأعداء والمعتدين؟
يقول الرسول الكريم في شرح هذا المبدأ، وتوكيده: «لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا صغيرا، ولا امرأت» وكان صلوات اللّه وسلامه عليه، يوصى من يبعثهم للجهاد بقوله: «اخرجوا باسم اللّه تعالى تقاتلون في سبيل اللّه من كفر باللّه، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع» إنها حرب الإسلام، غايتها الإصلاح، ودفع الخطر، وبتر الأعضاء الفاسدة من المجتمع الإنسانى.. ولو كان من همّ الإسلام الحرب للغلب والقهر والتسلط، لما كان معها إلا التدمير لكل شىء، والقتل لكل نفس.
وقد تلقى المسلمون من دينهم، ومن هدى نبيهم هذا الأدب الإنسانى العالي، في حرب عدوّهم، فلم تسكرهم حميّا النصر، ولم تجر على دينهم ومروءتهم شهوة الانتقام والتشفّى.. بل كانوا على هذا الأدب الرباني في السلم والحرب، وفى حال الهزيمة والنصر.
يقول أبو بكر رضى اللّه عنه، وهو يودّع يزيد بن أبى سفيان وكان أحد القواد الأربعة، الذين وجههم أبو بكر لحرب الروم في الشام: إنى موصيك بعشر خلال.. لا تقتل امرأت، ولا صبيّا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطع شجرا مثمرا، ولا تخرّب عامرا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمّا كله، ولا تعقرنّ نخلا ولا تحرقه، ولا تغلل، ولا نخن.
وقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً}.
هو تعقيب على قوله تعالى: {حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ}.
إذ المراد بشدّ الوثاق- كما قلنا- هو عزل الذين يثخنون بالجراح عن القتال، ثم أخذهم في الأسرى، وإنزالهم على حكم الأسر.. إذ ليس الجريح من الأسرى إلا واحدا منهم، فلا يؤخذ بحكم المقاتلين، فيجهز عليه.. وهذا ما جاء في قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً}.
لتقريره، ولدفع ما يقع من شبهة في معاملة الجرحى، وإلحاقهم بالمحاربين الذين تضرب رقابهم.
فهؤلاء الجرحى من مقاتلى العدوّ، يؤسرون، ثم يؤخذون بحكم الأسرى على إطلاقه، وهو إما أن يمنّ عليهم، ويطلق سراحهم، تفضلا عليهم، وإحسانا إليهم، ومقابلة إساءتهم وعدوانهم بهذا الفضل والإحسان وإما قبول الفدية منهم، وهو عوض مالىّ، أو عيني، أو شخصىّ.. وذلك بأن يفرض على تخليص الأسير من الأسر قدر من المال، أو السلاح، أو المتاع، أو بتخليص أسير في يد العدو من أسرى المسلمين.
والأمر في هذا كله متروك لولىّ الأمر، القائم على شئون الحرب الدائرة بين المسلمين، وبين العدوّ، فهو الذي يقدّر الأمر في شأن أسرى العدو، أفرادا أو جماعات، بالعفو والمنّ، أو الفداء.
قوله تعالى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها} هو غاية للحكم الذي جاء به الأمر في قوله تعالى: {فَضَرْبَ الرِّقابِ}.
فهذا الحكم قائم على المسلمين الذين يلتقون بالكافرين في ميدان القتال.. إنهم مأمورون أمرا إليها بأن يضربوا الضربات القاتلة للأعداء، غير ملتفتين إلى أخذهم أسرى، الأمر الذي يحملهم على أن يتحروا ضرب المواطن غير المميتة منهم، حتى يكونوا مغنما من مغانم الحرب.. ومن جهة أخرى تشير هذه الغاية إلى أن حكم الضرب في رقاب الكافرين، إنما هو في حال الحرب، أما إذا انتهت الحرب، وخمدت نارها، فليس للمسلم أن يبدأ بعدوان، أو أن يقتل أحدا من الكافرين إذا لقيه وأمكنته الفرصة منه.. إذ لا يستباح دم الكافر إلا إذا كان في حرب على المسلمين.. أما في غير الحرب، فإن لدمه حرمة يجب على المسلمين رعايتها، وصيانتها.
وهكذا يقيم الإسلام في نفوس أتباعه هذه المشاعر الإنسانية العالية حتى مع عدوهم، الذي كان في وقت ما حربا عليهم، والذي لا يزال على فيه الحرب والعدوان، إذا أمكنته الفرصة.
وأوزار الحرب: أثقالها، وأعباؤها، وما يحمل المسلمون منها في مصادمة عدوهم، ودفع شره عنهم.. فإذا انتهت الحرب، وأخلى العدو ميدان القتال، بالفرار، أو الأسر.. فقد رفع عن المسلمين المقاتلين ما كانوا يحملون من أعباء ثقال.. وهنا تنتهى أحكام الحرب، ويعود المسلمون إلى موقفهم الأول من الكافرين.. وهو أن لا قتل ولا أسر لمن يقع لأيديهم من الكافرين في غير الحرب.
وفى إسناد الفعل {تَضَعَ} إلى {الْحَرْبُ} مع أن الذي يضع الأوزار، والأعباء هم المحاربون- في هذا إشارة إلى أن الحرب هى سبب هذه الأوزار وتلك الأعباء، وأنها هى التي جلبتها، وألقت بها على كاهل المحاربين.
وفى هذا تشنيع على الحرب، وتنفير منها، وتصوير لها في صورة كريهة، حيث لا تحمل إلى المتلبسين بها إلا ما يبهظهم ويثقل كواهلهم.
ثم إن في تسمية أعباء الحرب، وأثقالها، أوزارا، تشنيعا آخر على الحرب، وتأثيما لها، وأنها- أيّا كانت شىء- كريه، لا يطلبه المسلم، ولا يسعى إليه، ولا يرغب فيه، إلا إذا لم يكن منه بد، كدفع عدوان، أو إطفاء فتنة.
وهنا يدخل المسلم الحرب، من باب المحظور الذي يباح عند الضرورة، فيتعاطى منها بحساب، على قدر ما يدفع الضرر، في غير شهوة، ولا إسراف.
أفرأيت وجها للحرب، أقرب إلى السلام، وأدنى إلى العافية، من هذه الحرب التي يكون الإسلام طرفا فيها؟ إنها حرب يتمنى أن يعيش فيها الناس، ما يعيش فيه السلام العالمى اليوم، الذي قل أن يمسى أو يصبح في غير حرب.
ذلك أن العالم اليوم إذا أظلّه صباح يوم أو مساؤه بغير حرب معلقة أو سافرة، كانت الحرب الخفية مشبوبة الأوار، في صدور تغلى مراجلها بالعداوة والبغضاء، وفى نفوس تتحرق مشاعرها شهوة إلى إراقة الدماء، وإزهاق الأرواح، وإبادة الأمم والشعوب!.
قوله تعالى: {ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} الإشارة هنا إلى ما يطالب به المؤمنون من لقاء العدو في ميدان القتال، ومن توجيه الضربات القاتلة له، الفاضية على كل كيد يكيد به للإسلام والمسلمين، ولو كان في ذلك تعريض كثير من المؤمنين للاستشهاد في سبيل اللّه.. فذلك ابتلاء من اللّه للمؤمنين، وإنزالهم هذا المنزل الكريم الذي يلبسون فيه ثوب المجاهدين في سبيل اللّه، الواقفين فيه موقف جنود اللّه، المدافعين عن حرماته.. ولو لا هذا الصدام بينهم وبين أهل الكفر والضلال، لما وقفوا هذا الموقف الكريم، ولما نالوا هذا الشرف العظيم.
فهذه الحرب بين المؤمنين والكافرين، هى لحساب المؤمنين قبل كل شىء، إذ هى التي أنزلتهم هذه المنزلة العالية، وأحلّتهم هذا المحل الكريم.
وما كان اللّه سبحانه وتعالى بحاجة إلى جنود يجاهدون في سبيله، ويقفون في وجه هؤلاء الكافرين المحادّين له سبحانه.. إذ لو شاء اللّه سبحانه وتعالى {لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} أي لسلط عليهم آفة مهلكة من الآفات، أو لما جاء بهم إلى هذه الحياة الدنيا، أو لهداهم إلى الحق، وكانوا في المؤمنين.
ولكن هكذا شاءت مشيئة اللّه سبحانه.. فجعل الشرّ في طريق الخير، وجعل الكافرين في وجه المؤمنين، وذلك ليتيح للمؤمنين فرصة العمل لما يرفع منزلتهم عند اللّه، ويعلى قدرهم، وينزلهم منازل رضوانه.
فهؤلاء الكافرون، والمشركون، والضالون، وهذه الآفات والشرور المبثوثة بين الناس، إنما هى القرابين التي يتقرب بها المؤمنون والصالحون من عباد اللّه، إلى اللّه، بالتصدّى لها، وإعلان الحرب عليها.. وبهذا ينالون من ثواب للّه ورضوانه بقدر ما يعملون.. ولو لا هذا لما كان ثمة عمل يمتاز به الخبيث من الطيب! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} أي هذا الاختلاف بين الناس، وهذا الصدام الذي يقع بين المؤمنين والكافرين منهم، إنما هو ابتلاء وامتحان لهم، حيث يكشف احتكاك بعضهم ببعض عن معدن كل منهم، كما يقول اللّه تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ} [31: محمد].
هذا، وأرى شفاها تتحرك عليها عبارات التساؤل أو الإنكار، لهذا الذي نقوله، من أن وجود أهل الضلال في هذه الدنيا، هو سبيل من السبل التي يتخذها المؤمنون للتقرب إلى اللّه، ولرفع درجاتهم عند اللّه بجهادهم، وقتلهم، أو الاستشهاد في سبيل اللّه على أيديهم.. وقد يقول قائل:
ما ذنب هؤلاء الضالين في تقديمهم على مذبح القربان للّه؟ وأ لهذا كنت الغاية من خلقهم؟.
وقول: وماذا ينكر المنكرون من هذا؟ ولم لا يكون هؤلاء المشركون والكافرون والضالون جميعا قربانا يتقرب إلى اللّه بجهادهم من أهل الإيمان؟.
وقد يقول قائل: أهذا ممكن أن يكون في شأن الإنسان، الذي كرمه اللّه سبحانه، ورفعه على سائر مخلوقات الأرض، وجعله خليفة له فيها؟.
ونقول: نعم، هذا ممكن.. فإن هذا الإنسان الذي كرّمه اللّه سبحانه وتعالى، وفضله على كثير من خلقه، وجعله خليفة له في الأرض- هذا الإنسان، قد نزع بيده هذا الثوب الكريم الذي ألبسه اللّه إياه، وتخلى عن عقله الذي هو التاج الذي نال به شرف الانتماء إلى الإنسانية.. وقد عطل وظيفة هذا العقل، فلم ينظر به في آيات اللّه الكونية، ولم ير من خلال هذا النظر وجه خالقه، ولم يتعرف إلى ما للخالق سبحانه من جلال وقدرة، ثم إنه حين جاءته آيات اللّه على يد رسله لم يتنبه من غفلته، ولم يحد عن طريق ضلاله، بل ازداد كفرا باللّه، ومحادّة له- فكان بهذا على غير صورة الإنسان الذي كرمه اللّه، وخلقه في أحسن تقويم. إنه حينئذ هو الإنسان في أسفل سافلين، ومن هنا كان إلى الحيوان أقرب منه إلى الإنسان، ومن هنا أيضا كان حيوانا يقدّم على مذبح التقرب إلى اللّه، إذا هو أعمل قرونه ومخالبه وأنيابه في عباد اللّه.
وأولياء اللّه.. فإن هو أمسك شره، فلم يعرض لعباد للّه بأذى، ترك وشأنه، كما تترك الوحوش في الغابات.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ}.
هو تنويه خاص بشأن الذين يستشهدون في سبيل اللّه. فهؤلاء الشهداء لن يضل اللّه أعمالهم، بل سيقيمها على طريقه المستقيم، حيث تنزل منازل الرضا والقبول من اللّه رب العالمين.. فهم داخلون أولا في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ} ثم هم مختصون ثانيا بهذا لذكر، الذي يقيمهم بعد موتهم، مقام الأحياء، الذين لم يفارقوا هذه الدنيا، وذلك بإصلاح بالهم، على حين يقيمهم مقام أهل الجنة قبل أن يدخلها أحد غيرهم، فهم ساعون إلى الجنة، آخذون طريقهم التي يعرفونها، إليها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [169: آل عمران] قوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ} هو بيان لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ}.
أي أن اللّه سبحانه وتعالى سيهدى الذين قتلوا في سبيل اللّه، ويقيم بين أيديهم من أعمالهم الدليل الذي يأخذ بهم إلى الجنة التي أعدها اللّه لهم، وعرّفهم الطريق إليها.
وهذا مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [9: يونس].
فأعمل الشهداء، مستنيرة مبصرة، تعرف طريقها إلى مقام الرضا والقبول، وأصحاب هذه الأعمال، وهم الشهداء، يتبعون أعمالهم تلك، ويأخذون طريقهم على هديها، حيث تنتظرهم عند اللّه في جنات النعيم التي أعدها سبحانه لأصحاب هذه الأعمال الطيبة كما يقول سبحانه: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ} [12: الحديد] فالذى يسعى بين أيديهم هو هذا النور المشع مما في أيمانهم، وهو سجل أعمالهم، التي صارت كتبا تناولوها بأيديهم اليمنى.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ}.
هو التفات من اللّه سبحانه وتعالى إلى المؤمنين، ودعوة منه جل شأنه إلى أن يكونوا جميعا في هذه المنزلة التي أعدها للمجاهدين في سبيله.
فالمؤمنون الذين يقاتلون في سبيل اللّه إنما ينصرون اللّه.. فهم جند اللّه، الذين يحاربون من حارب اللّه.
ونصر المؤمنين للّه، إنما هو بنصر دينه، وإقامة شريعته، ودفع الضلال والشرك والإثم، وكل ما يعترض سبيل اللّه، ويخالف ما أمر به.
وفى إسناد نصر اللّه إلى المؤمنين تكريم لهم، ورفع لقدرهم، وإنزالهم منزلة المعين للّه، المؤيّد له، واللّه سبحانه غنى عن كل معين ومؤيد.. إذ كل شيء في هذا الوجود هو منه، وله.. لا يملك أحد شيئا.. فكيف يطلب النصر من خلقه الذين لا يقوم وجودهم لحظة واحدة إلا بحفظه، ورعايته؟ إن ذلك- كما قلنا- هو تكريم للمؤمنين، وإحسان من اللّه إليهم. كما في قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً}.
فاللّه سبحانه هو المعطى لكل ما في أيدى الناس.. ثم هو سبحانه- فضلا وإحسانا منه- يدعوهم إلى أن يقرضوه مما أعطاهم!!.
وفى قوله تعالى: {يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ} إشارة إلى أن نصر المؤمنين للّه، ليس نصرا على حقيقته، وإنما هو مظهر من مظاهر الطاعة والولاء للّه.
وإلا فإن النصر الحقيقي هو الذي يمنحه اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين، ويمدهم بالأسباب الممكنة لهم منه.. فهو سبحانه الذي ينصرهم على عدوهم، وثبت أقدامهم في مواقع القتال على حين يملأ قلوب الذين كفروا رعبا وفزعا.
{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [10: الأنفال].. ومع أن هذا النصر من عند اللّه، فإنه محسوب للمؤمنين، يلقون عليه أحسن الجزاء في جنات النعيم.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ}.
هو في مقابل قوله تعالى للمؤمنين: {يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ} فإنه- سبحانه- إذ ينصر المؤمنين ويثبت أقدامهم- يخذل الكافرين، وينزلهم منازل البوار والتعس، ويبطل أعمالهم، فلا يقبل منهم عدلا ولا صرفا. فكل عمل للكافرين إلى ضلال، وضياع.. وإذ كان الإنسان من وراء عمله، ينظر إليه، ويتبع آثاره ليجى ثمرة ما عمل، فإن الكافرين ستقودهم أعمالهم التي أصلها اللّه، إلى الضلال، وإلى عذاب السعير.
وفى التعبير عن التّعس والخسران، بالمصدر {فَتَعْساً لَهُمْ}، وعن ضلال الأعمال، بالفعل {وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ}.
في هذا ما يشير إلى أن التّعس والبوار والخسران، صفة ملازمة لهم، مستولية على كيانهم كله، في أقوالهم وأفعالهم، وفى ماديات حياتهم ومعنوياتها.. فالمصدر- كما قلنا- يجمع كل معانى الأحداث المشتقة منه.. على نحو ما أشرنا إليه في قوله تعالى {فَضَرْبَ الرِّقابِ}.
أما ضلال أعمال الكافرين، فهو حدث متسلط على أعمالهم، فكن ما يقع منهم من عمل تسلط عليه الضلال، وطواه تحت جناحه.
وفى التعبير بالماضي {أضل} بدلا من المضارع {يضل} إشارة أخرى إلى أن الكافر محكوم مقدما على كل عمل من أعماله بالضلال، دون نظر في وجه العمل، فإنه يستوى في ذلك الحسن والقبيح، والخير والشر، من أعمال الكافرين.. إذ كل أعمالهم قبيحة، وكل أفعالهم شر.. هكذا تقع أعمال المشركين تحت حكم الضلال، وقوعا مطلقا، فلا ينتظر في الحكم عليها حتى ينكشف وجهها، ويعرف الحسن والقبيح منها.. إنها كلها قبيحة الوجوه، منكرة الوجود، قبل أن تولد!.
قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ}.
هذا بيان للسبب الذي من أجله كل الحكم عليهم بالبوار والخسران، وبإبطال كل عمل يعملونه، ولو كان مما يعدّ في الأعمال الصالحة.. إنهم {كرهوا ما أنزل اللّه}.
وهو القرآن الكريم، الذي يدعوهم إلى الإيمان باللّه، ويحمل إليهم الهدى والنور.
وكراهيتهم لما أنزل اللّه، هى التي دعتهم إلى اتخاذ هذا الموقف العدائىّ لرسول اللّه، ولآيات اللّه التي يتلوها عليهم.. فإن من كره شيئا تجنبه، وعاداه.. على خلاف من أحب الشيء، فإنه يدنو منه، ويقاربه ويختلط به، ويأنس إليه.
وإحباط الأعمال، هو إفسادها، ووأدها في مهدها.. ومنه الحديث الشريف: «إن من الربيع ما يقتل حبطا أو بلمّ» والقتل الحبط، هو أن تأكل البهيمة حتى تنتفخ وتموت متخمة!


{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها}.
هو تهديد ووعيد للمشركين الذين كذبوا رسول اللّه، وأنكروا عليه ما دعاهم إليه من الإيمان باللّه وحده، والإيمان باليوم الآخر، وبالحساب والجزاء.
وقد حمل هذا الوعيد إلى المشركين في هذا الاستفهام الإنكارى الذي يرميهم بالعمى والغفلة عن النظر فيما حولهم، وفيما أصاب المكذبين برسل اللّه قبلهم، من عذاب ونكال.. لقد دمر اللّه على هؤلاء المكذبين، وأنى بنيانهم من القواعد، وأن للكافرين عند اللّه أمثال هذا التدمير.
وفى قوله تعالى: {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وفى تعدية الفعل بحرف الاستعلاء {على} إشارة إلى أن هذا التدمير، قد وقع عليهم من جهة عالية، متمكنة، منهم، بحيث يكونون تحت رمياتها التي لا تخطىء الهدف أبدا.
وفى قوله تعالى: {وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها} بجمع أمثال، بدلا من قوله- مثلها- إشارة إلى أن ما يرمى به الكافرون من مهلكات، ليس على صورة واحدة، بل إن لكل أمة، ولكل جماعة لونا من ألوان الهلاك.. كما يقول اللّه تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا} [40: العنكبوت].
فهى ألوان من الهلاك، مختلفة الأشكال، وإن كانت متفقة في الآثار.
قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ}.
فى الآية إشارة ضمنية إلى أن المؤمنين باللّه واليوم الآخر، لا يصيبهم شيء من هذا البلاء المسلط على الكافرين.. وذلك بسبب {بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} أي ناصرهم ودافع المكروه عنهم.. أما الذين كفروا فلا ناصر لهم ولا معين يعينهم.
فإنه لا يملك النفع والضر إلا اللّه سبحانه وتعالى، وقد لاذ المؤمنون بحمى اللّه، فلم يصل إليهم ضر، ولم يصبهم مكروه، على حين ركن المشركون والكافرون إلى ما يعبدون من دون اللّه، فلم تغن عنهم آلهتهم من اللّه من شىء.
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ}.
ومن آثار ولاية اللّه سبحانه وتعالى للمؤمنين أنه يدحلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار.. فهم في الدنيا، في أمن من أن يحلّ بهم ما يحل بالكافرين من البلاء العام الشامل الذي يأتى على كل شىء.. وهم في الآخرة، ينعمون في جنات تجرى من تحتها الأنهار.
وفى قوله تعالى: {وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} إشارة إلى أن الإيمان الذي يثمر هذه الثمرات الطيبة لأهله، إنما هو الإيمان الذي يصدّقه العمل الصالح فليس الإيمان مجرد قول باللسان، وتصديق بالقلب، فهذا إيمان لا ثمرة له، وإنما تظهر ثمرة الإيمان، فيما يكون عليه سلوك المؤمن، وما تكسب جوارحه.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ}.
كان مقتضى السياق أن يكون نظم الآية هكذا مثلا.. والذين كفروا لهم عذاب جهنم.
ولكن النظم القرآنى، المعجز، يضع الأمر موضعه، فيصل حياة الكافرين في الدنيا، بحياتهم في الآخرة.. إنهم على طريق واحد في دنياهم وأخراهم جميعا.
فهم في الدنيا، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، وهم في الآخرة يلقون في عذاب جهنم.
والناظر المدقق في الحالين يرى أنهما على سواء، وإن بدا الاختلاف بينهما بعيدا في عينى من لا بصيرة له.
فالإنسان ليس جسدا حيوانيا، غايته أن يأكل كما تأكل البهائم، وإنما الإنسان إنسان، لأن له روحا يهفو إلى الملأ الأعلى، ويتشوف إلى مطالع النور منه، ولهذا الروح مطالب يجب أن يؤديها الإنسان له، حتى تظل أسبابه موصولة بالملأ الأعلى، آخذة طريقها إليه.. وإلا انقطعت تلك الأسباب، وأصبح الإنسان جسدا حيوانيا، لا شيء من معالم الإنسانية فيه.. وهذا عذاب وبلاء للإنسان.. إذ أنه يعيش في الناس حيوانا ممسوخا في جسد إنسان، أو إنسانا مردودا في طبائع الحيوان.
وفى قوله تعالى: {يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ} إشارة إلى أن ما يتمتع به الكافرون من متع في اتصال الرجال بالنساء، هو عند الكافرين متعة حيوانية، يستجيبون فيها لغريزة الحيوان لحفظ النوع.. على حين أن المؤمنين يجدون في قضاء هذه المتعة شيئا أكثر من حفظ النوع.. إنهم يرونها نعمة من نعم اللّه، كما يرون فيها بعض قدرة اللّه في خلق الإنسان، وتطوره في هذا الخلق، من ماء دافق، إلى إنسان رشيد عاقل.
فقوله تعالى: {يَتَمَتَّعُونَ} أي يتناكحون، وينزو الذكر منهم على الأنثى كما ينزو ذكر الحيوان على أنثاه.
فمتعتهم الجنسية متعة حيوانية، لإشباع حاجة الجسد، وحفظ النوع.
وأكلهم أكل حيوانى، لإشباع البطون، وحفظ الحياة.
وتبدو لنا من الآية الكريمة صورة مسعدة مشرقة، لأولئك الذين يعيشون في هذه الدنيا على ذلك الزاد الطيب من المعاني الكريمة، والمثل الرفيعة، والمبادئ القويمة، وإن فاتهم كل شيء من ماديات الحياة ومتاعها.
إنهم في نعيم يملأ حياتهم المقفرة من متاع الدنيا، بألوان من البهجة والمسرة، لا يجد أحد مثلها إلا في الجنة التي وعد اللّه المتقين من عباده.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ} [26: الرعد] قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ}.
هو تهديد للمشركين من قريش، الذين آذوا النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- وآذوا أهله وأصحابه، حتى اضطر- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلى الهجرة من بلده، وأهله، والبيت الحرام الذي تعلّق به قلبه.
فكثير من القرى، كانت أشد قوة من هذه القرية- مكة- أهلكها اللّه ودمّرها على أهلها، ولم يكن لهم من ناصر ينصرهم من بأس اللّه إذ جاءهم.
وهذه القرية قد فعلت فعل القرى الظالمة التي أهلكها اللّه، فهل إذا أراد اللّه هلاك أهلها- أهناك من يدفع عنهم ما يرميهم اللّه سبحانه وتعالى به من إمهلكات؟.
وفى إضافة القرية إلى النبىّ، إشارة إلى أنها قريته، وهو صاحبها، وأولى الناس بها، وإن أخرج منها.. إنها ستفتح عما قريب ذراعيها للنبىّ، وتستقبله استقبال الأرض الجديب جاءها الغيث، وإنها لتكون عما قريب البلد الإسلامى الأول، الذي يوجه النبىّ والمؤمنون معه، وجوههم إلى البيت الحرام فيه.. وفى الآية إشارة إلى أن هذه القرية لن يحل بها من الدمار والخراب ما حلّ بقرى القوم الظالمين، ففى إضافتها إلى النبىّ الكريم، ضمان لها من كل سوء إلى يوم القيامة، إنها قرية النبىّ، وستظل قريته إلى يوم الدين.
قوله تعالى: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ}.
المراد بالاستفهام هنا، النفي، بمعنى أنه لا يستوى من كان على بينة من ربه، وعلى هدى منه، ومعرفة به- لا يستوى من كان هذا شأنه، ومن زين له سوء عمله، فرأى القبيح حسنا، والشر خيرا، والهدى ضلالا.. إنه لشتان بين هذا، وذاك.. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [9: الزمر].
{أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟} [35- 36: القلم].
وفى إفراد {فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} إشارات:
أولها: أن الذي يكون على بينة من ربه، وعلى هدى منه، إنما هو إنسان استقلّ بنظره، وأحقكم إلى عقله، ولم يكن منقادا لهوى غيره، أو منساقا وراء هوى نفسه.
وثانيها: أن المؤمنين- وإن كانوا ذواتا كثيرة متعددة- كل منهم له كيانه ووجوده الذاتي المتحرر من التبعية الاعتقادية- هم جميعا ذلك المؤمن الذي على بينة من ربه.. فكل مؤمن يرى وجوده ووجهه في هذا المؤمن.
وثالثها: أن المؤمن الذي يكون على بينة من ربه يرجح ميزانه موازين غير المؤمنين جميعا.
وفى إفراد {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} وجمع {وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ} في هذا أكثر من إشارة كذلك.
فأولا: إفراد الذي زين له سوء عمله مع بناء فعله للمجهول، يشير إلى أن هذا التزيين، وإن كان يرد على الإنسان من جهة تزين له المنكر، وتغريه به، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ} [25: فصلت].
هذا التزيين وإن كان يرد على الإنسان من خارج- فإنه لا يدفع عنه حمل المسئولية، ولا يعفيه من الحساب والجزاء، إذ كان لكل إنسان ذاتيته ووجوده.. واللّه سبحانه وتعالى يقول:
{كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ} [21: الطور] ويقول سبحانه:
{كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [38: المدثر].
وثانيا: في جمع {وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ} إشارة إلى أهل الضلال والفساد، يغرى بعضهم بعضا، ويغوى بعضهم بعضا، وإذا هم جميعا يتبادلون أهواءهم بينهم، فكل منهم يأخذ بهوى الآخرين.. وهذا هو المصدر الذي يجىء منه التزيين، كما يقول سبحانه: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً}.
(112: الأنعام).
قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى، وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ، وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ}.
هذا تعقيب على الآية السابقة: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ؟}.
ففى قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ..} الآية- في هذا، جواب على هذا السؤال الذي أثارته الآية السابقة.. وقد جاء هذا الجواب في صورة سؤال يحتاج هو الآخر إلى جواب، ولكن جواب هذا السؤال قريب واضح، يكاد يمسك باليد.
فما هى إلا نظرة يلقيها الإنسان إلى أهل الجنة وما يلقون فيها من نعيم، وإلى أهل النار، وما يساق إليهم من عذاب، حتى يرى هذا البعد البعيد بين حال هؤلاء وأولئك.. أصحاب الجنة، وأصحاب النار.. من كان على بينة من ربه، ومن زين له سوء عمله فرآه حسنا.. ومن هنا كان من المناسب، ذكر الجنة، وما فيها من ألوان النعيم.
وقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}.
هو استفهام يردّ به على الاستفهام في قوله تعالى: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ}.
والتقدير: كلا.. ليس من كان على بينة من ربه، كمن زين له سوء عمله، وكيف يكونان متماثلين؟ أمثل الجنة التي وعد المتقون، ينعمون فيها بما يشاءون كمثل النار التي يلقى فيها المجرمون، يطعمون من جمرها، ويشربون من لهيبها؟
ويلاحظ في الآية الكريمة أن عرض المقابلة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، لم يكن متطابقا، فقد جاءت الجنة مقابلة لأصحاب النار هكذا: مثل الجنة التي وعد المتقون.. كمن هو خالد في النار؟ ولو جاءت المقابلة على وجه التطابق، لجاء النظم هكذا: أمثل الجنّة التي وعد المتقون.. كمثل النار التي وعد المكذّبون المجرمون؟ أو هكذا: أمثل أصحاب الجنة التي ينعمون بطيباتها.. كمثل أصحاب النار الذين يتقلبون على جمرها؟
فما وجه هذا؟ وما سرّه؟
الجواب- واللّه أعلم- من وجوه:
فأولا: ليس المهمّ في بلاغة المقابلة بين الأمور- لكى تتضح وجوه الخلاف بينها، ومن ثمّ تتضح سمة كل مقابل في وجه مقابله- ليس المهم في بلاغة المقابلة هنا، هو التطابق بين الصورتين، الموجبة والسالبة، كما في العمل الفتوغرافى.
وإنما الصميم من البلاغة، هو أن يقع التطابق فيما وراء الغلاف الخارجي، أو السطح الظاهري للأشياء.. بحيث يبلغ أعماقها، وينفذ إلى جوهرها.
وثانيا: هنا في هذه الصورة التطابقية التي جاءت بها الآية الكريمة، لأصحاب الجنّة وأصحاب النار- نرى صورتين متطابقتين أتم التطابق وأكمله وأروعه.
ففى صورة النعيم، نرى جنّة! وهذه الجنة موصوفة بصفتين:
أولاهما: أنها للمتقين الذين وعدهم اللّه إياها.
وثانيهما: أن فيها أنهارا من ماء غير آسن، وأنهارا من لبن لم يتغير طعمه، وأنهارا من خمر لذّة للشاربين، وأنهارا من عسل مصفّى، كما أن فيها ما يشتهى أهلها من الثمرات.
فاللون الغالب البارز في هذه الصورة، هو لون الجنة.. أما أصحابها فهم لون أقل بروزا وظهورا من الجنة ذاتها.
وهذا يعنى- في مقام الإحسان- المبالغة في إكرام هؤلاء الضيف المدعوّين من اللّه سبحانه، الموعودين بالنعيم في جناته.. فإنه بمقدار الاهتمام بالإعداد لاستقبال الضيف، يكون مقدار منزلته عند مضيفه.
وفى صورة الإعداد لاستقبال الضيف- أي ضيف- يعرف- من لم يكن يعرف- قدر هذا الضيف ومنزلته، وإن لم يعرف من يكون، وما الجهة التي يجىء منها.
وفى الصورة المقابلة لصورة النعيم.. ما ذا نرى؟
نرى اللون الغالب فيها، والذي يكاد يغطى الصورة كلّها، هو أصحاب النار، وما يلقون فيها من عذاب ونكال.
فهناك أناس خالدون في النار، مقيمون إقامة دائمة فيها، شرابهم ماء يغلى فيقطع الأمعاء.. هذا هو كل ما في الصورة! ولكن كلمة النار، وإن أخذت حيزا ضئيلا من الصورة، فإنها تلقى على الصورة كلها ظلالا كثيفة كئيبة، تتراقص عليها واردات جهنم كلها، وما يساق إلى أهلها من ألوان العذاب والنكال.. ومن تلك الواردات هذا الماء الجهنمى الذي يقطع أمعاء من يدخل إلى أمعائهم.
ومن جهة أخرى، فإن إبراز أصحاب النار في النار، وتلونهم باللون الغالب الواضح فيها- إشارة إلى أن أصحاب النار قد أصبحوا بعضا من النار، بل إنهم الشاهد المبين عنها وعن أفعالها وآثارها.. إنهم حطب جهنم.
فهم إذن هذا اللهب المتسعّر منها، وأنه لو لا هذا الخطب لما كانت هذه النار.. وهل نار بغير وقود؟
فإذا نظرنا إلى الصورتين: صورة النعيم، والصورة المقابلة لها على نحو نظرتنا هذه، وجدنا الجنة وأهلها، والنار وأصحابها، ورأينا التقابل كاملا بين الصورتين، وذلك بما يجريه العقل من عمليات منطقية، تقيم المتقابلين على ما يقضى به التطابق بينهما.
فإذا كانت هنا جنة، فليكن هناك نار.
وإذا كان في النار أهلها وما يكابدون من عذابها، فليكن في الجنة أهلها وما ينعمون به من خيراتها.
وهكذا تتبادل الصورتان، فتأخذ كل منهما من الأخرى عكس ما تعطى.
من الصفات أو الذوات.
قوله تعالى: {فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} هو من صفات هذه الجنة، وما فيها من ألوان النعيم.
فإذا كان في جنات الدنيا، جداول تجرى، أو أنهار تتدفق.. فالجنة التي أعدت للمتقين فيها أنواع شتّى من الأنهار لم تعرفها الجنّات في الدنيا.
ففى الجنة التي وعد المتقون: {أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ}، أي غير متغير الريح أو الطعم، فهو ماء جار، صاف، طهور.. عذب فرات.
وفى هذه الجنة {أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} أي لبن كأنما حلب لساعته، لم يمر به زمن ينقل فيه اللبن من حال إلى حال، أو أحوال، أخرى.
وفى تلك الجنة {أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ}، أي بلذّ طعمها للشاربين.
فليس فيها من خمر الدنيا هذا الطعم المرّ اللاذع، كما أنها لا تخامر العقل، ولا تذهب باللّب، كما يقول اللّه تعالى: {لا فِيها غَوْلٌ} [47: الصافات].
وفى الجنة أيضا أنهار من عسل مصفى أي خالص من أي شائبة تعلق به.
إنها جنة فيها مشابه مما عرف الناس من نعيم الدنيا، ولكن الفرق بعيد، والبون شاسع بين الحقيقة والمثال، بين الكائن الحىّ وظله الواقع على الأرض!


{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً؟ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ}.
الضمير في {مِنْهُمْ} يعود إلى مفهوم من الآيات السابقة، التي أشارت إلى المشركين، وتوعدتهم بالعذاب في الدنيا والآخرة.. ففى قوله تعالى: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ} في هذا إشارة إلى المشركين.. وقوله تعالى: {وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ} فيه إشارة أخرى إليهم.. فهم الموصوفون بأنهم ممن زين لهم الشيطان أعمالهم واتبعوا أهواءهم، وهم المتوعّدون بأن يسقوا ماء حميما يقطع أمعاءهم.
فقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} أي ومن هؤلاء المشركين، منافقون، جاءوا يستمعون إليك.. لا يريدون الهدى، ولا يطلبون الإيمان، وإنما يريدون أن يشغبوا، وأن يشوشوا على النبي، إن وجدوا سبيلا إلى الشغب والتشويش، فإن لم يجدوا سبيلا إلى هذا في مجلس النبي صلوات اللّه وسلامه عليه، تصيّدوا الأكاذيب والمفتريات، ثم أذاعوها في الناس، متخذين من حضورهم مجلس القرآن، دليلا على أنهم يقولون عن علم، ويتحدثون عن وقع!.
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً}؟.
{حتى} حرف غاية، أن غاية هؤلاء الذين يستمعون هذا الاستماع إلى النبي، وإلى ما يتلو من آيات اللّه- غايتهم هى أن يقفوا من الذين أوتوا العلم هذا الموقف، الذي يلقونهم فيه هازئين، مشككين في آيات اللّه، وفى المعاني الكريمة التي بين يديها.
فلو لا حضورهم مجلس النبي والاستماع إلى ما يتلو من آيات اللّه، لما كان لهم سبيل إلى أن يقفوا هذا الموقف من المؤمنين، الذين حضروا معهم هذا المجلس- فحضورهم مجلس النبي له غاية ينتهى إليها، وتلك الغاية هى الخروج من عند النبي، وموقفهم المؤمنين قائلين لهم: {ما ذا قالَ آنِفاً؟}.
وواضح أن هؤلاء الذين أشارت إليهم الآية في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} واضح أن هؤلاء من المشركين المنافقين الذين جاءوا إلى النبي يستمعون إلى ما يقول، وهم على شركهم، وإن أعلنوا إسلامهم، ودخلوا في المسلمين.
ولذين أوتوا العلم في قوله تعالى: {قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} هم المسلمون، الذين دخلوا في الإسلام مؤمنين، وكانوا في مجلس النبي يستمعون لآيات اللّه تتلى عليهم.. فهؤلاء المسلمون المؤمنون، هم أهل علم بما استمعوا إليه من آيات اللّه، وكلماته.. لأنهم استمعوا بآذان مصيغة، وقلوب واعية، وعقول متحررة من التبعية والتقليد الأعمى.. ومن هنا كان لهم هذا العلم الذي حصلوه من آيات اللّه التي استمعوا إليها.. وفى هذا تعريض بالمنافقين، ووصفهم بالجهل والغباء والبلادة.. وأنهم لو كانوا على حظ من العقل والإدراك، لكانوا من الذين أوتوا العلم، الذين جلسوا في مجلسهم، واستمعوا إلى ما استمعوا إليه، ولكن شتان بين أذنين تسمعان.. أذن إنسان، وأذن حيوان!!.
فهؤلاء المنافقون، الذين استمعوا إلى النبىّ، قد فضحوا أنفسهم، وكشفوا عن غبائهم، إذ جاءوا يسألون عن مضمون كلام استمعوا إليه، دون أن يدركوا له معنى، مع أن هذا الكلام قد أفاء على من استمعوا إليه، وأحسنوا الاستماع- قد أفاء عليهم علما، وخلع عليهم خلعة العلماء، فكانوا من الذين أوتوا العلم، يسألهم المشركون المنافقون هذا السؤال النبىّ: {ما ذا قالَ آنِفاً}؟
وهو سؤال المستهزئ.. و{آنِفاً} أي من قبل.. فهى كلمة تدل على الزمن الماضي.. منصوبة على الظرفية، كأنهم قالوا: ماذا قال عشية، أو غدوة، أو صباحا، أو مساء.
قوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ} هو الحكم الذي وقع على هؤلاء المنافقين، بعد موقفهم هذا من الاستماع إلى القرآن الكريم، يتلوه الرسول الكريم، ثم سؤالهم عما سمعوا، هذا السؤال المستهزئ المنكر.
فهؤلاء هم الذين طبع اللّه على قلوبهم، وختم عليها، فلا تقبل خيرا، ولا تأذن بخير يدخل إليها، ومن أجل هذا فقد أخلوا مع أهوائهم، تقودهم إلى حيث مواقع الضلال والهلاك، دون أن تمتد إليهم يد منقذة.. إنهم قطعوا كل سبب يصل بينهم وبين أية وسيلة من وسائل الإنقاذ.
قوله:
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ}.
الذين اهتدوا هم أولئك المؤمنون الذين أوتوا العلم، وهم كل المؤمنين.
إذ لا يكون الإيمان إيمانا إلا عن علم.
والذين اهتدوا إنما اهتدوا لأنهم أوتوا علما، فكان هذا العلم طريقا فسبحا لهم إلى مزيد من العلم، ومزيد من الهدى.. فكلما ازداد الإنسان معرفة بربه ازداد هدى. وازداد تقوى.. {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} [28: فاطر].
وهذا يعنى أمورا:
أولا: أن على الإنسان أن يلتمس الهدى ويطلبه من ذات نفسه.. وهو في هذا إنما يستجيب لفطرته، ولداعى عقله.. فإذا لم يتجه إلى هذا الاتجاه، كان مصادما لفطرته، معطلا لمدركاته.. إنه حينئذ يكون أشبه بالحبّة التي أصابها السوس، أو مسّها العفن والعطن.. إنها تبذر مع غيرها من الحب، وتسقى الماء كما يسقى غيرها، ولكنها تظل جسما ميتا هامدا في الأرض، يأكله الثرى، على حين يخرج غيرها نباتا، ثم يكون زرعا، مزهرا مثمرا.
إن كل حبة من تلك الحبات التي نبتت وازدهرت وأثمرت، لم تخرج إلى وجه الأرض إلا بما فيها من حياة كامنة، وإلا بمجهود ذاتى، بذلته الحبة حين اختلطت بالماء والتراب، حتى لكأنها الأنثى تضع حملها، فتعانى آلام الطلق، والوضع!.
والذين {اهْتَدَوْا} أي بذلوا جهدا ذاتيا من أنفسهم، للاتجاه نحو النور، والدخول في دائرته- هؤلاء يزيدهم اللّه هدى بهذا النور الذي وضعه بين أيديهم، فيرون على ضوء هذا النور أكثر مما رأوا، حيث تهديهم هذه الرؤية إلى نور أعظم، فيسعون إليه، ويدخلون في دائرته.. وهكذا.. {نُورٌ عَلى نُورٍ.. يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ} [35: النور] وفى قوله تعالى: {وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ} إشارة إلى أن التقوى التي يبلغها المؤمن بإيمانه، هى مطلب أعظم من مطلب العلم، وأنها إنما تنال بعد جهد، ومصابرة.. ولهذا، فإنه إذ يبلغ الإنسان الدرجة التي يدخل بها مدخل المتقين، يحتفى به في الملأ الأعلى، وتخلع عليه خلعة التقوى من اللّه رب العالمين، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ}.
إنها هبة عظيمة من اللّه، وعطاء كريم، من رب كريم، لعباد كرام على اللّه، مكرمين في رحابه.
وفى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} وقوله تعالى: {وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ} ما يشير إلى أن تحصيل العلم ليس غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة إلى تحصيل الهدى، وبالهدى يكون تحصيل الصفات الطيبة، التي تكمّل الإنسان، وتجمّله، وإنه لا أكمل، ولا أجمل من التقوى.. كما يقول سبحانه: {وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ} [26: الأعراف] وقوله سبحانه. {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى} [197: البقرة].
ومن أجل هذا- واللّه أعلم- جاء فعل الهدى محمولا على فاعله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا}.
على حين جاء إتيان التقوى مسندا إلى الفعّال المريد، اللّه رب العالمين: {وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ} لأن التقوى مطلب مسير، ومقام كريم، تمتد به يد الرحيم الكريم، إلى من أخذوا بالأسباب إلى التقوى.
قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ}.
الاستفهام هنا إنكارى، تقريعى، تهديدى، ينكر على المشركين موقفهم هذا، من الإيمان باللّه وبرسول اللّه، ويقرّعهم على أنهم لم يفتحوا أبصارهم ولا بصائرهم لهذا النور الذي بين أيديهم، ولا إلى هذه المثلاث التي حلّت بالأمم من قبلهم.. ثم يتهددهم بالعذاب الذي يلقاهم يوم القيامة، وقد قرب يومها، وجاءت أشراطها، أي العلامات المنذرة بمقدمها.
فهؤلاء المشركون.. ما ذا ينتظرون؟ هل ينتظرون- إن انتظر بهم- إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون؟... وإنها لآية لا ريب فيها.. فكيف يكون حالهم إذا جاءتهم، وقدّموا للحساب والجزاء؟.. هل ينفعهم شيء في هذا اليوم؟ وهل من سبيل إلى أن يصلحوا ما أفسدوا؟ كلا، فقد انتهى وقت العمل، وجاء وقت الحساب والجزاء.. لقد انتقلوا من دار العمل والابتداء إلى دار الثواب والعقاب.
وقوله تعالى: {فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ}.
أي فكيف تنقعهم الذكرى، إذا جاءتهم الساعة؟ والذكرى هى العبرة والعظة.. وفى يوم القيامة تكثر العبر والعظات، وتمتلىء القلوب بالندامة والحسرة على ما كان من الإنسان من تفريط في جنب اللّه، وتقصير في رعاية حقه.. فمن لم يكن مؤمنا قتل نفسه حسرة على أنه لم يكن في المؤمنين، ومن كان مؤمنا ندم على ألا يكون في المحسنين، ومن كان في المحسنين، ندم على أنه لم يزدد إحسانا.. ولكن لا شيء ينفع في هذا اليوم، إلا ما كان من عمل في الدنيا. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى. {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي} [23- 24: الفجر].
قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ}.
المتقلب: ما يتقلب فيه الإنسان من شئون الحياة، والمراد به الحركة.
والمثوى المأوى، الذي يثوى إليه الإنسان، ويسكن إليه، والمراد به:
السكون.. والآية التفات من اللّه سبحانه وتعالى إلى النبي الكريم، واستدعاء، واستدناء له من اللّه، ليتلقّى ما يوصيه به ربه، تاركا هؤلاء المشركين وما هم فيه من عمى وضلال.. إنهم استحبوا العمى على الهدى، وآثروا الضلال والشرك، على الإيمان.. فلبموتوا بشركهم، وليلقوا المصير الذي هم أهل له.
أما أنت أيها النبي {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ}.
فالألوهة مقصورة على اللّه وحده، لا يشاركه فيها أحد.. {إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ}.
{وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ} {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.
والسؤال هنا: ماذا يراد بالعلم المطلوب من النبي أن يعلمه، من أنه لا إله إلا اللّه؟ وهل كان النبي إلى نزول هذه الآية الكريمة، لا يعرف هذه الحقيقة؟
إن النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- كان على التوحيد الخالص للّه قبل أن يبعث، فكيف يراد منه أن يعرف هذه الحقيقة بعد أن بعث؟ وهل الخلاف بينه وبين قومه إلا على عبادة اللّه وحده، دون ما يعبدون من آلهة؟.
فما مفهوم هذا الأمر بالعلم؟
الجواب- واللّه أعلم- من وجوه:
أولا: أن دعوة النبي من اللّه سبحانه وتعالى للعلم بأن لا إله إلا اللّه- هو نداء قرب وأنس للنبى من ربه، يلقى إليه فيه بالوصف الذي ينبغى أن يعلمه من ربه، فيحققه، ويؤكده.
وثانيا: العلم المطلوب من النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- ليس هو العلم المجرد، وإن كان مستيقنا، وإنما هو العلم الذي يعطى ثمرا حاضرا.. والمراد بدعوة النبي هنا بأن يعلم أن لا إله إلا اللّه- هو ألا يأسى على هؤلاء المشركين والمنافقين، وألا يحفل بهم وبكثرتهم وقوتهم، فإن اللّه الذي لا إله إلا هو، معينه، ومؤيده، وناصره على كل عدو له، وللدين الذي جاء به.. إنه سبحانه صاحب الأمر، ومالك الملك.
وثالثا: إذا كان مطلوبا من النبي أن يذكر ربه، وأن يجدد له كل حين بهذا الذكر ولاء لربه، وخضوعا لجلاله وقدرته- إذا كان ذلك مطلوبا من النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- وهو الذي تنام عينه ولا ينام قلبه عن ذكر ربه- فإن غير النبي أولى بأن يقيم على نفسه من هذا الأمر حارسا يحرسه من أهواء نفسه، ووساوس شيطانه، حتى لا يلهو عن ذكر اللّه، ولا يقطع الصلة بينه وبين ربه، فتمتد غربته عن ربّه ساعات، أو أياما، أو شهورا، أو سنين!!.
قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ}.
أي اطلب المغفرة من اللّه سبحانه وتعالى، لذنبك، ولذنوب المؤمنين والمؤمنات، وذلك في حال استحضارك ذكر ربك، والإقرار بتفرده بالألوهة.. فإذا كان ذلك، كان طلب المغفرة لذنبك، ولذنوب المؤمنين، طلبا واقعا موقع القبول، لأنه متوجّه به إلى من يملك الأمر كله.
النبي.. وما ذنبه الذي يستغفر له؟
والسؤال هنا: هل للنبى- صلوات اللّه وسلامه عليه- ذنوب يطلب لها المغفرة من اللّه سبحانه وتعالى؟ وكيف يتفق هذا والعصمة الواجبة للنبى؟
والجواب على هذا- واللّه أعلم- من وجهين.
فأولا: عصمة النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- لا تقطعه بحال أبدا عن البشرية، التي لا تسلم- مهما بلغت من السموّ والكمال- من عوارض الخطأ، والتقصير، وذلك كشاهد على بشريّتها.
وما يقع من الأنبياء والرسل من خطأ وتقصير، هو من الهنات التي تمدّ حسنات إذا صدرت من غيرهم.. ومثل هذه الهنات لا تجور على عصمة النبىّ، فإنه- مع هذه الهنات- لا يزال على قمة الإنسانية في أكرم صفاتها، وأنبل أخلاقها.. وقد استغفر كثير من الأنبياء من ذنوب سجلها القرآن الكريم عليهم.. كما في قوله تعالى عن داود عليه السلام: {وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ} [34: ص].
وكسليمان- عليه السلام- إذ يقول سبحانه: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ} [144: الصافات].. ويونس عليه السلام: {فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [144: الصافات].
وإبراهيم أبو الأنبياء، عليه السلام، يقول عن نفسه: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [82: الشعراء].
فكل ابن آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون.. والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- أبناء آدم.. وأخطاؤهم هى أخطاء على حدود الكمال المطلق، الذي لا تطوله يد بشر! وثانيا: أن في دعوة النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلى الاستغفار لذنبه، إشارة إلى أن الإنسان مهما كان أمره من الإيمان والتقوى، لا يبلغ أبدا غاية الكمال المطلق.. فإنه كلما حثّ الخطا إلى هذا الكمال ارتفع صعدا في منازله، ووجد منازل لا تنتهى.. وذكر اللّه، واستغفاره، يبعت في شعور الذاكر المستغفر، أنه بين يدى اللّه الذي لا إله إلا هو، وأنه في حضرة من يعلم السرّ وأخفى، فتأخذه لذلك خشية ورهبة من كل زلة زلها، أو هفوة وقعت منه.. فلا يجد غير اللّه ملجأ يلجأ إليه، ليغفر له ما كان منه.. {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ}.
(135: آل عمران).
فإذا كان النبي مطالبا بأن يستغفر لذنبه، فكيف حالنا نحن؟ وكيف بما نحمل من أوزار لا تستقلّ بحملها الجبال؟ ثم كيف بأولئك الذين يحسبون- إن صدقا وإن خداعا- أنهم على هدى، وتقوى من اللّه.. كيف بهم يخلون أنفسهم من التكاليف الشرعية، بدعوى يدّعونها لأنفسهم، أو يدّعيها لهم غيرهم- بأنهم من الواصلين.. أي الذين وصلوا إلى غاية الكمال، وتحرروا من القيود والحدود، وفنوا في المطلق؟ إن من يفنى في المطلق لا يكون إنسانا، ولا ينبغى أن يسكن إلى الناس، وأن يسكن إليه الناس..!
وقوله تعالى: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ} معطوف على قوله تعالى {لِذَنْبِكَ} أي استغفر لذنبك، ولذنب المؤمنين والمؤمنات.. وأعيد حرف الجر {اللام}.
للإشارة إلى أن ذنب النبي غير ذنب المؤمنين والمؤمنات.. وأن ذنب النبي هو- في باب الفضل والإحسان- عدم تحرّى الأخذ بما هو أفضل وأحسن.
وفى اختلاف النظم القرآنى بين قوله تعالى في شأن النبي: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} وبين قوله تعالى في شأن المؤمنين والمؤمنات: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ} من غير أن يضيف إلى المؤمنين والمؤمنات ذنوبا- في هذا الاختلاف أكثر من إشارة:
فأولا: في قوله تعالى في شأن النبي: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} إشارة إلى أن ما كان من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من ذنب، هو معلوم له.. ذلك أن ما يعدّ من الذنب في مقامه- صلوات اللّه وسلامه عليه- يشعر به النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بمجرد وقوعه، لأنه شيء مظلم يدخل على هذا الوجود المشرق بنور الحق.
إنه سرعان ما يجد النبي في نفسه نخسة لهذا الذنب، وسرعان ما يتجه إلى اللّه سبحانه، طالبا التوبة والمغفرة.. فإذا غفل النبي، عن ذنب وقع منه نبهه اللّه سبحانه وتعالى إلى ذنبه، وكشف له عنه، في صورة عالية من الأدب الربانىّ.
ومن هذا عتابه سبحانه وتعالى لنبيه، فيما كان منه حين أعرض عن ابن أم مكنوم، الذي جاء يسأله عن شيء من أمر دينه، على حين كان النبي مشغولا بالحديث إلى جماعة من أشراف قريش، جاءوا يحاجّونه ويجادلونه.. فقال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [1- 3: عبس].
ومن هذا أيضا عتابه سبحانه للنبى، وقد أذن لبعض المنافقين الذين جاءوا يستأذنونه في التخلف عن الجهاد.. فقال سبحانه: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ؟} [43: التوبة].
هذا هو مما يرى في حق النبي ذنبا.
فقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} إشارة إلى ذنب معلوم للنبى، قد علمه بمراجعة نفسه أو بإعلام اللّه إياه.. وهذا يعنى أن ذنب النبي شيء قليل، لا يمكن أن تجتمع منه ذنوب.. فهو ذنب قليل، كمّا وكيفا.
وثانيا: في وقوع فعل الاستغفار على الذنب، في قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}، إشارة أخرى، إلى أن هذا الذنب لم يدخل على النبي صلوات اللّه وسلامه عليه شيء منه، بل ظلت ذاتية النبي في صفائها ونقائها، وظل هذا الذنب كائنا يحوم بأجنحته حول حمى النبوة، دون أن يقدر على اختراق هذا الحمى.
ففى إفراد الذنب، وعزله عن ذنوب المؤمنين- تكريم للنبى، وإعلاء لقدره، وتنويه بمقامه عند ربه، وأنه شىء، وهذا الذنب شيء آخر.. إن هذا الذنب هو الذي يحتاج إلى معالجة، أما النبي الكريم فهو على الصحة والسلامة.
وثالثا: في قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ} هو مقابل لذنبك.
فالنبى إذ يستغفر لهذا الذنب الذي كان منه، عليه كذلك أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات الذين هم غرس يده.
وإن عمل النبىّ- أيّا كان هذا العمل- هو عمل مبرور.. وإن ما يعمله النبىّ ويحسب عليه من قبيل الذنب.. وعمل مبرور كذلك، وإن لم يستوف غاية البرّ.. شأن عمل النبي هنا، في هذا شأن المؤمن أو المؤمنة، يتلبسان بالذنوب، ويختلطان بالآثام.. ثم هما- مع ذلك- أقرب إلى اللّه، وأدنى إلى رحمته ممن لا يؤمنون باللّه، ولو لم يواقعوا إثما، أو يفعلوا منكرا.
فكما أن الإيمان يحمى المؤمن من غائلة المعاصي، التي تقع منه، وذلك بأن يتوب إلى اللّه فيتوب اللّه عليه، ويستغفر لذنوبه فيغفر اللّه له.. على حين أن غير المؤمن لا يقبل منه عمل أبدا- كذلك النبوّة تحمى النبىّ من أن يعلق به ذنب، أو تتحكك بحماه معصية.. إن ذنبه طاهر أشبه بطهر المؤمن أو المؤمنة.-
وكما يرى النبىّ المؤمنين أو المؤمنات في حاجة إلى تطهير مما علق بهم من خطايا وآثام، كذلك يرى بعض أعماله التي تعدّ عليه ذنبا- في حاجة إلى تعديل وتقويم وإن كان وجهها قائما على قبلة الحقّ، آخذا سمت العدل والإحسان.
ورابعا: استغفار النبىّ لذنبه.. استغفار لذات محدّدة معروفة، هى هذا الذنب، {اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}.
أما استغفاره- صلوات اللّه وسلامه عليه- للمؤمنين والمؤمنات، فهو استغفار لتلك الذوات.. ذوات المؤمنين والمؤمنات.. وما تلبس بها من ذنوب، وهذا يعنى:
أولا: أن النبىّ إذ يستغفر لذنبه، إنما يستغفر لذنب غفره له اللّه سبحانه وتعالى، من قبل أن يقع منه، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ} [2: الفتح] وقوله سبحانه: {وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [2- 3 الانشراح].. فالاستغفار هنا استغفار حمد وشكر، كما يشير إلى ذلك النبىّ الكريم، وقد سئل، كيف يجهد نفسه في قيام الليل حتى تورمت قدماه، وقد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فيقول صلوات اللّه وسلامه عليه:
{ا فلا أكون عبدا شكورا}.
ثانيا: أن استغفاره صلى اللّه عليه وسلم.. وللمؤمنين المؤمنات.. ذواتا وذنوبا، هو بركة، ورحمة، تتنزل عليهم، فتشيع في قلوبهم السكينة، وتجلى عن أبصارهم غواشى الجهل والضلال.. فيثوب العاصي، ويهتدى الضال، ويزداد الذين اهتدوا هدى.
فاستغفار النبىّ للمؤمنين والمؤمنات، إنما هو دعاء لهم بالخير والهدى واستدناء لهم من رضا اللّه وتوفيقه.. وبهذا يكون للمؤمنين والمؤمنات، من هذا الاستغفار، داع خفىّ يدعوهم إلى اللّه سبحانه، وينهج بهم مناهج الخير والهدى.. لا أنّ هذا الاستغفار من النبىّ للمؤمنين والمؤمنات، يغفر لهم ذنوبهم، ويمحو عنهم سيئاتهم، فإن غفران الذنوب ومحوها إنما يكون بعمل ذاتىّ من الإنسان نفسه بأن يتوب إلى اللّه ويستغفر لذنبه، كما يقول سبحانه:
{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ} [25: الشورى].
وكما يقول جل شأنه: {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} [110: النساء] أو بأن يعمل المرء عملا صالحا، فيكون ذلك العمل الصالح طهرة من العمل السيء، كما يقول سبحانه: {إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ} [114: هود] أو أن يكون ذلك بفضل من اللّه ونعمة.
وهذا الذي ذهبنا إليه من أن استغفار النبىّ للمؤمنين والمؤمنات، لا يكفر عنهم ذنوبهم، وإنما يمدّهم بأمداد الهدى والاستقامة- هذا الذي ذهبنا إليه، هو ما يتفق وروح الشريعة الإسلامية، التي تحترم الإنسان، وتعلى ذاته، وتجعل إليه وجوده كله، من غير قوامة عليه من أحد.. فهو بهذا الوضع إنسان يحمل المسئولية كاملة، ماله، وما عليه.
ولو كان استغفار النبىّ للمؤمنين والمؤمنات مكفّرا عنهم سيئاتهم غافرا لذنوبهم وآثامهم.. لكان من هذا داعية إلى المؤمنين والمؤمنات إلى إخلاء أنفسهم من المسئولية، ولما كان للإساءة حساب عندهم، إذ كان هناك من يستغفر لهم، ويحمل عنهم ذنوبهم! ومن جهة أخرى، فإنه لو كان معنى استغفار النبي للمؤمنين والمؤمنات، هو طلب المغفرة لذنوبهم، لكان ذلك أمرا مقضيّا للنبى عند ربّه، ولغفر اللّه سبحانه وتعالى ذنوب المؤمنين والمؤمنات جميعا، لانه دعاء من النبىّ، وكل دعاء من النبىّ إلى ربّه، هو دعاء مستجاب، لا يتخلف أبدا.. وقد رأيت ما يقضى إليه غفران ذنوب كل مؤمن ومؤمنة، من غير عمل منهم.
واستمع بعد هذا إلى قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [103: التوبة].
ففى هذه الآية الكريمة، ترى المؤمنين في مقام الإحسان، وهم يؤدون زكاة أموالهم إلى النبي، فيقبلها النبي منهم، فيكون لهم من هذه الزكاة طهرة لأنفسهم، وزكاة لأموالهم: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها}.
فإن زكاتهم تلك التي أخذها النبي منهم، يردّها عليهم طهرا لأنفسهم، ونماء لأموالهم.
فهذا إحسان إليهم، في مقابل إحسان منهم و: {هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ؟} [60: الرحمن].
ثم بعد مقابلة هذا الإحسان بإحسان، دعا اللّه سبحانه وتعالى نبيه الكريم إلى أن يضيف إلى هذا الإحسان إحسانا، فضلا وكرما من اللّه سبحانه، وذلك بأن يصلى النبي على هؤلاء المتصدقين: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} فهذه الصلاة، من النبي على المتصدقين، هى سكن لهم، واطمئنان لقلوبهم، وزاد من الإيمان يثبت أقدامهم على الخير، ويفتح أبصارهم إلى مواقع الإحسان.. أما غفران ذنوبهم- كلها أو بعضها- فهو موكول إلى اللّه، وبما يقدمون للّه سبحانه وتعالى من طاعات وقربات.
{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}.

1 | 2